تزامن مشهدا الانتخابات المصرية والسورية، رغم الاختلاف الجذري بين البلدين. وفي المشهدين، تكرّرت مشاهد الاحتفال في الشارع، رغم الاختلاف الجذري بين البلدين. وإذ اتفق معارضو المشهدين على وسمهما بصيغة «عودة الديكتاتور»، ترى الناخبين في المشهدين قد اتفقوا أيضاً على تحديد هدف واضح للصيغة التي انتخبوها: العودة إلى البيت في سوريا، والأمن في مصر. ومع التشديد على الاختلاف الجذري بين البلدين، فإن معارضي سوريا جرّدوا الناخبين السوريين من «الأهلية الديموقراطية» (بصفات مثل مجبورين أو منتفعين)، بينما مال المشهد المعارض في مصر إلى توصيفٍ للناخبين أقرب إلى الواقع: يريدون قائداً أعلى جديداً لنظامٍ سابق.
ورغم الاختلاف الجذري أيضاً، فإن المشهدين أتيا بمفاجأة صاعقة: خفوت الشارع في انتخابات مصر،وامتلاؤه في المشهد السوري. لا شيء من ذلك أتى من العدم، وكل شيء في ذلك يخبرنا عن الغد. الانتخابات في الحالتين لم تأت لتعبّر عن رأي الناخب الحرّ، وإنما عن حال الناخب المضغوط في واقعه، المحتاج بشكلٍ ماس إلى الخروج منه، في سوريا أكثر مما في مصر طبعاً. أما إسقاط هذه الانتخابات من التحليل بمبرّرٍ انفعالي (أو انتقامي) فهو فعلٌ لا يعني إلا إسقاط أصحاب هذا التحليل من سياق التأثير.
«لسنا كومبارس»
توقع معارضو عودة العسكر إلى حكم مصر أن يصابوا بإحباطٍ مؤلم من مشهد يوم الانتخاب. توقعوا من مريدي المشير عبد الفتاح السيسي أن يملأوا مراكز الاقتراع باحتفالهم، وساحات البلد بأجسامهم. لم يخلُ المشهد المصري من ذلك، رقصن في مراكز الاقتراع، جعلوه رئيساً بإرادة شعبية واضحة، لكنهم لم يصنعوا الكرنفال. كأن مصر كانت تتذكر وتراقب، في لحظة الانتخاب.
عندما ملأ المصريون شوارعهم بالملايين منهم، مرة وثانية وثالثة وأكثر، كانوا شديدي الفخر والاعتزاز بالذات. بوعي، كان المصري ينظر إلى نفسه في المرآة ويفتخر بها، ينظر إلى حشده ويرفع الرأس به. في الثورة، صنعت الأكثرية الصورة التي تحبها عن نفسها. حتى يوم نزلوا للتفويض، كانوا معتزّين بأنفسهم، يرون أنفسهم في دور البطولة، الفاعل. لم يكونوا غافلين، سمعوا نقدهم، وأجابوا: نحن نعرف ما نريد.
في المقابل، في اليوم الانتخابي، بدا وكأن السجادة تُسحب من تحت أقدامهم، ليعود البطل إلى صدر الصورة، ويعودون هم إلى موقع «الكومبارس» المساند فيها. كأن غصّة لاشعورية سرت كنسيمٍ مثلج بين المواطنين المؤيدين للسيسي، ليس الأكثر حدّة وثقة بينهم وإنما المتفاوتي الحماسة لاستعادة النظام منهم. كذلك، فإن التحدّي قد غاب. لن يكونوا صنّاع فارقٍ، وما فعلهم الانتخابي إلا شيءٌ من روتين بيروقراطي في إدارة انتخابٍ استتب. فأتت الصورة مفاجئة في ضعفها.
لم تكن صورة شمولية، لم يولد أمبراطور الشمس منها. لقد تواضع الهتاف لرئيسٍ، بعدما تجاور في البال مع هتافٍ ملأ الكون للذات. كما أن القلق ليس خافتاً من إعادة إنتاج الفرعون، حتى لو حاولت الذات إسكاته والاطمئنان المطلق إلى خيارها الأمنيّ والآمن. فالمشهد المصري المعارض يعيش في صلب الواقع، في صلب حياة المصريين، ولم ينفك يوماً عن مدّ المجتمع بخطابٍ نقديّ متنوّع الحجج والبراهين، وباقتراحات بدائل في تفصيل كل خطوة كما في المشهد العام. مهما حاول المؤيدون طرده، هو حاضرٌ في كل مكان: من البيت إلى الجامعة والنقابة، ومن الحزب إلى الجريدة والمقهى، ومن قاعة المحكمة إلى التواصل الاجتماعي.. وكذلك هي المخاطر: من العسكرة إلى الفرعنة، ومن الجوقة السابقة المستمرة إلى الأجندة الخفية عن شعبٍ قاصر، ومن القمع المباشر (سجن ماهينور المصري) إلى الرقابة العلانية (وقف برنامج باسم يوسف)، ... المشهد المصري العريض ليس خفياً على أحد، ولا أحد فيه يسيء فهم أحدٍ فيه. وفي ذلك مصدر آمان لتراكم ثوري ممكن، بنبضٍ ما زال مستمراً.
«ليه في غيرو؟»
عندما خرج السوريون لينتخبوا، لم يكن من المتاح تجاهل الطارئ الشديد القسوة في الصورة، مهما علا صوت الاحتفال فيها ليطغى على هذه القسوة. الفرح، في هذه الحالة، هو قرين الأسى، الحداد، التشرّد، الخيبة، والضياع. هو وجهه الثاني، عندما تجد اليد إمكانية له في بؤسها. وعندما أجاب الناخبون عن سؤال «من ستنتخب؟» بـ«ليه في غيرو؟»، لم يكن من الممكن تجاهل الحقيقة المرّة في القول.
لم تمرّ الثورة بمراحل، لم تختمر، لم تحتفل ثم تنهزم، لم يرتدّ بعض ناسها عليها، لم تلفظ آخرين، لم يصادرها «أعداؤها»، لم تستعد صوتها منهم، لم تمرّ بمراحل تطور ونضج لتواجه اليوم مرحلة خانقة منها. من حيث يقف الناس، باتت السنوات القليلة الماضية تراكماً من الموت والدمار والتشرّد. للغضب والانتقام مساحةٌ واسعة في كلامٍ كثير، وللإنهاك مساحاتٌ عظمى في الوجوه. هذا ما توقعت العيون رؤيته في مشهد الانتخاب السوري، ولم تجده. وجدت الكرنفال الذي لم يفز به السيسي في يوم انتخابه. من اتجه إلى السفارة السورية وسأل الناس عن أسبابهم، سمع تكراراً بلهجاتٍ مختلفة لعبارةٍ واحدة: نريد العودة إلى البيت. لم يعد شيءٌ يعلو فوق هذا الصوت. لا الحرية، ولا الديموقراطية، ولا البحث عن بدائل، ولا غياب الخطاب المعارض، ولا... لا شيء يعلو فوق صوت: الأمن، البيت. لم يعدهم بشار الأسد بالأمن، حتى ولو أوحى بذلك. لكنهم يعرفون. إن ووجهوا بالذين ماتوا، يقولون بلا جدوى تكديس الموتى. عندما يواجَهون بإمكانيات التغيير، يسردون أسماء الكتائب الإسلامية المقاتلة كافة، جاعلين منها وجه التغيير الدامي المقترح. عندما تواجههم بالظلم الذي يقع على رؤوسهم والجريمة، يسألونك عن المعارضة: ألم يعرفوا النظام الذي يريدون الثورة عليه؟ ألم يوافقوا على قرار الحرب معه؟ ألم... وتطول سلسلة الأحداث الخاسرة، والمفاصل المتهاوية، في سردية كئيبة ترتجي لنفسها صورة فعل.
الإجابة الوحيدة على المصيبة الماثلة أمامهم، هي بشّار الأسد. ماذا يفعلون وهم مقيّدون خارج بيوتهم في بلاد تضيق بحالها وبهم؟ قال لهم: انتخبوا. أعطاهم فعلاً يمهّد للعودة إلى البيت، إلى الأمن. وهو ليس فعلاً مجرّداً طبعاً، وإنما هو الفعل الذي سيواجه الأسد الدنيا به. لكنه الأمن. هو الجواب الوحيد على السؤال الوحيد. من بادر، من كان السبّاق إلى، من... هذه أسئلة مترفة بالنسبة إلى اللحظة، يطرحها ويتفاعل معها من يمتلك الوقت والرفاهية (النسبية) الكافية لها. لن تقوى على حساب أحدٍ عن شيء، فلمَ توزيع المسؤوليات؟ وعند المحاسبة، مَن يحاسبك؟ أم أنك معصوم في صعودك وفي هزيمتك؟ أسئلة لا تنتظر الإجابات، بينما القذائف تحوم فوق الرؤوس.
في المقابل، تعيش المعارضة المدنية حالة إنكار الواقع، ربما تأتي من شدّة قسوته عليها. عجزها عن التعامل معه، يردّ بشكل واضح على عجزها عن معرفة الغد من اليوم. لا جواب لديها، وتلك حقيقة واقعية. ومن أين تأتي به؟ من نقابة، من جامعة، من حزب؟ من أين؟ وإلى أين تذهب به؟ كان يمكنها أن تجعل مطلبها وقف إطلاق النار مثلاً، وهو مطلب لن يختلف السوريون حوله. لكنه ليس مطلبها بعد، ولا هي أساساً قادرة على الاتفاق على مطلب، ولا على إنجازه. فيكون الإنكار، لجهة الاكتفاء بنعي ما يحصل وسوقه كدليلٍ إضافي على جريمة الديكتاتور.
الناس في بلادنا لم يولدوا بالأمس، ولا ذاكراتهم تقف عند حدود هذا الأمس. الناس، عندما يختارون الأمن، فهم يعرفون أو توارثوا بالذكرى معنى انعدامه، وإمكانية استدامة هذه الحال. يقع العراق على ضفاف سوريا، وكذلك يفعل لبنان، وكذلك هي فلسطين. بلاد عجنت في غياب الأمن، حتى بات في فصول تردّيه أولويتها. للمغالين في تأييد الأسد أسبابهم، ولكن أحداً في سوريا ولبنان وسواهما يجهل ديكتاتورية آل الأسد، ونظام «البعث». جرائم على مرّ العقود وعبر الحدود. ولذلك، فإن للثورة عليه مصداقية وحقاً. لكن، إمكانية الثورة عليه هي التي بقيت خارج الحسبان. فهم المجتمع وحاجاته وأحواله، مخاطبتها والنقاش، الخط التصاعدي، الرافعات الاجتماعية، الاصطدام المتكرر بجدار المنع، ... تفاقم ثوري يبلغ ذروته في لحظةٍ يكون قد شدّ بها عوده، بوعي أو بلاه.. وإلا، فالبديل هو السقوط في هاوية. هاوية من الظلم والوجع والنكران والمغالاة والتخبّط و...
قد يصاب المرء في مقتلٍ وجوديّ أمام هذا المشهد، لكن نفي معانيه عنه لن يعود بالفائدة على أحد. في بلادنا، يبدو أن الحلّ الأنسب امام المعارضات، على مختلف أطوارها وأحوالها، أن تنصت إلى الواقع في معرض تغييره.. أكان التغيير ممكناً بعد حين، أو بعد حينٍ بعيد.
[ينشر ضمن اتفاقية شراكة وتعاون بين جدلية و"السفير العربي" ]